فيلم "البراق" للمخرج المغربي محمد مفتكر
غرائبية الجسد ، اشكالية الأنثى والتجليات في ماوراء السرد الفيلمي الواقعي
طاهر علوان
لاشك اننا نبحث دوما في عالمنا العربي عن سينما مختلفة ، عن رؤى جديدة واساليب مختلفة تخرج عن الأنماط السائدة وبما فيها اكثر الأشكال الواقعية التي لاتخرج عن "الحدوتة" او الحكاية معلومة النهاية منذ البداية ، سينما تحرك الساكن وتثير تساؤلات وتدفع بالمشاهد الى التيقظ والتساؤل والجدل والأختلاف ...وبالطبع هو مطلب يشمل حتى التجارب السينمائية غير العربية لكن المسألة فيما يتعلق بالسينما العربية تتسع بسبب قلة الأنتاج وضعف النوع ، لجهة طريقة المعالجة والحلول الأخراجية .
من هذا المدخل اذهب الى فيلم البراق للمخرج المغربي محمد مفتكر ، وهو فيلمه الروائي الطويل الأول وكان قد نال استحسانا ابان عرضه في المهرجانات السينمائية المحلية في المغرب كمهرجان طنجة ومهرجان خريبكة ليعرض في الدورة الأخيرة لمهرجان نامور الدولي للسينما الفرنوفونية في دورته الأخيرة في مدينة نامور البلجيكية حيث اتيحت لي فرصة مشاهدته.
في فضاءالقصة
في البدء لابد من القول ان هذا الفيلم لايقدم قصة تقليدية عادية واحداثا يمكن مسبقا توقعها او في الأقل رسم مساراتها او الأقتراب من الشخصيات ومحاولة سبر اغوارها ، وعلى هذا فأننا امام فيلم يمكن تلخصيه بالبحث عن الذات الهائمة ، الذات التي وقعت ضحية الآخر ووقعت ضحية البحث عن خلاص في وسط دوامة لانهائية من الميثولوجيا والسحر والميتافيزيقيا .
من هذه الخلاصة المكثفة سنتوقف عند قصة فتاة ما في وسط مجتمع ذكوري لايراد لها ان تكون انثى ، الأب الذي سيستخدم بطشه وقوته على ذلك الكائن الضعيف ، الفتاة وهي طفلة وعليها ان تتحول الى فتى ، ان تتدرب على ركوب الخيل وان ترتدي ثياب الفتيان ، ذلك عالم مغلق على ذاته في وسط قرية في مكان ما تحف بها الجبال وتمتد مزارع القمح لتكون ملاذا للصبية / الفتى ومكانا للعب مع صبي آخر ، وهناك يمارس الأب سطوته على ذلك الأمتداد اللامتناهي ، يقود ابنته الطفلة قسرا الى عالم الذكورة الذي لاخيار لها فيه .العالم الكامن المجهول عبر ذلك الأمتداد عبر الوهاد والجبال لايصغي لأنين الطفلة التي كل ذنبها انها ولدت انثى وهي تجوس في غيهب مجهول لاتدريه وتدور في فضائه .
ليس هنالك من تحولات كبرى في هذا المسار المقفل سوى اصرار الأب على المضي في تأكيد سطوته رمزا للمجتمع الذكوري .وفي المقابل هنالك المساحات التي تتجلى فيها الطفولة منذ البداية والتي تجدها شبه لازمة متكرره في الفيلم وهي مثلا الكتابة على اللوح ، تلك اللازمة التي تتكرر وتنقش فيها اسماء ووجوه وكأنها الواح القدر الذي تجد فيه الشخصيات اسمائها وسيمائها فضلا عن انها لاتكتب الا في تلك الأجواء المعتمة الكابية ، تكتب الأسماء على التتابع ويتحول الخط العربي في التفافاته والتواءاته الى تعبير حي عن الشخصية ويتحول القلم الى اداة سحرية يجري تسليمها بكثير من الهيبة من شخصية الى اخرى , حت اذا غصناعميقا في هذا المسار مانلبث ان نذهب الى مسار آخر مواز له ، هنالك مستشفى يشبه الزنزانة يشرف عليها رجل يرتدي البزة العسكرية وهو مصاب بعرج ، وهذا يحتجز فتاة شابة هي "ريحانة" التي تنزوي في تلك الحجرة البائسة البالية وتختلط في عقلها هلاوس واحلام يقظة وذكريات قاسية وحوادث اغتصاب ومشاهد حب وخوف وموت وسحر ورهبة كلها جميعا تحتشد في ذلك العقل الصغير لريحانة (الممثلة ماجدولين دريسي) التي ماتلبث ان تصبح مجرد حالة مرضية لدى زينب (الممثلة سعدية لديب) ، الطبيبة المعالجة النفسية او الباحثة الأجتماعية التي تعقد جلسات متكررة تصغي خلالها الى ريحانة والى ماضيها وذكرياتها ثم لتخبرها ريحانة تاليا انها حامل ..ولكن ممن ؟ في البدء تتوقع انه ليس غير الحارس او المدير ذو البزة العسكرية القادم من الحرب والذي يتوعد بالحرب ويكرر كلمة الحرب مرارار وهو الذي يحقن ريحانة بالأبر والأدوية ، لكن المشاهد التي ينسخ بعضها بعضا في ثنايا الذاكرة المضطربة لريحانة توجد اكثر من رجل هو على صلة مع ريحانة ويشاركها متعة الجسد راغمة او راغبة ، هنالك الذكريات مع زيد ..الشاب الذي ابتلعته الحرب هو الآخر وهنالك الأب ، وكل منهم يظهر منفرادا بريحانة على افتراض اقتراف الأب للزنا بالمحارم .
هيمنة الجسد
يمتلك الجسد حضوره منذ البداية فالأنثى المرفوض وجودها الأنثوي وهو رفض لوجودها الجسدي المجرد لااكثر ولهذا يحضر الجسد كثيرا في سياق الفيلم كما انه ذلك الجسد الذي كتبت عليه اقداره وحياته ولهذا ساعة ينكشف الجسد في مشهد حلمي – سريالي ممزوج ببعد واقعي فأنه يتكشف عن جسد تغطيه الحروف والكلمات ، تم رسم تلكم الكلمات عليه بلا انتهاء ، ثم مايلبث ان يتحول الى جسد واقع في دائرة الوجد المجرد من خلال علاقة ريحانة مع زايد ، فهي تلك العلاقة التي تمر مرورا خاطفا في ثنايا الفيلم ولاتصمد كثيرا امام العواصف الأخرى التي تعصف بريحانة ، العلاقة مع زايد تمثل ذلك البحث المضني عن بديل انساني للأستلاب وقلة الحيلة وانهيار الذات امام ضغط الآخر .
في المقابل نجد ان ريحانة في لحظات انهيارها وهي محاصرة في تلك المصحة – السجن ، نجدها ايضا منهمكة في التعبير عن حصار الجسد فهي حبيسة ذلك القفص الذي تريد الخروج منه لكنها امام قوة اخرى غير قادرة على التخلص منها .
وعلى هذا يتحول الجسد في الشكل الغرائبي الذي تم تقديمه فيه ،الى نقطة انتهاك من اطراف عدة : الأب الشرس المستبد الذي يسحق فكرة االأنوثة ويرفض ان يتسجيب لها فارضا وعيا ومفردات ذكورية خالصة ، زيد الذي يبحث وهو في ريعان شبابه عن شريكته التي لايكف عن التودد اليها وعناقها ومضاجعتها في مشهد ضعيف للغاية اخراجيا وواضح انه مصطنع ، وفي المقابل هنالك الزمن الذي تجد ريحانة نفسها في وسطه وهي تحاول التقاط ذاتها ولملمة جراحاتها وهي لحظات البوح التي كانت تعبر فيها عن نفسها في اثناء لقائها الباحثة النفسية او الأجتماعية .
الحصان والبيض رمزا وموضوعا
يكثف المخرج محمد مفتكر من الرموز التي يريد منها ان تنسجم مع فكرته وموضوعه ، اذ تتكرر مشاهد الحصان في حالات ومواضع مختلفة بل ان الحصان يعد مفردة اساسية لاغنى عنها في كل الفيلم تقريبا فلا تكاد تحضر الشخصيات في بعض المشاهد حتى نكون في مشاهد يحضر فيها الحصان الأسود خاصة ولايتوان المخرج عن التركيز على الحصان بكل تفصيلاته : العيون ، الرقبة السيقان ، والحصان وهو جامح منطلق او وهو ساكن او وهو يعتنى به من طرف والد ريحانة ويتطور الأمر الى ربطه بعمق بالموروث الفكري والأنساني المحلي ، اذا يتكرر ظهور كتاب عتيق مصفر الأوراق يغطيه التراب موضوعه الحصان يبدأ بالآية القرآنية عن العاديات وهو الكتاب الذي يضعه المحقق او مدير المستشفى او السجان او الحاكم العسكري او كلها مع بعض لأنه كل هذا ، سيضع الكتاب على الطاولة امام زينب ثم تذهب زينب بعد ذلك للبحث عن الكتاب في ارفف الكتب وتظهر تفاصيل هيئة وشكل الحصان ...ثم يكون ذلك الحصان من جانب آخر هو الحلقة التي توصل مابين ريحانة والعالم الذكوري بحسب الحل الذي اوجده الأب ، فأول مايجب ان تتعلمه ريحانة هو ركوب الخيل ، ذلك الفرس نفسه اسود اللون الذي ظل يتكرر مثل لازمة لانهائية ، كما انه هو الذي يمنحها الأحساس بتلك المغامرة الجديدة عندما تجد نفسها جزءا من تلك الدائرة التي لافكاك منها : الأب – الحصان – الذكورة – استلاب الأنثى .
وهنالك استخدام آخر ملفت للنظر وهو البيض الذي يتكرر في كثير من المشاهد وغالبا هو بيض الطير الذي يتم الرسم والكتابة عليه ، ويتحول الى لازمة اخرى مرتبطة بالشخصيات وذلك خلال عملية الكتابة على اللوح او رسم اوجوه الشخصيات عليها ، واذا فهمنا دور الحصان في السياق العام للفيلم فأن تكرار ظهور البيض كان اقرب الى ممارسة السحر وكتابة التعاويذ وماالى ذلك دون ان يفصح ذلك الأستخدام عن كثير من التفاصيل .
جماليات السينوغرافيا والتصوير..
مما لاشك فيه ان هذا الفيلم على ماعليه من ملاحظات في السيناريو لجهة انه ينحو منحى ذهنيا وتتداخل فيه الأزمنة والأماكن مبتعدا كثيرا عن التتابع والنمو المنطقي للأحداث وافعال الشخصيات وبسبب ذلك فأن من ينشد من وراء هذا الفيلم قصة تقليدية معتادة قائمة على التسلسل المنطقي للأحداث فأنه لن يعثر عليها بسهولة ، حتى ان الممثلة التي ادت دور زينب (الممثلة لديب) كانت قد صرحت في لقاء صحافي معها ان المخرج كان يجري عمليات مونتاج مسبقة في ذهنه قبيل واثناء تنفيذ المشهد ومايزيد الموضوع تعقيدا هو كون الفيلم يعتمد على تداعيات نفسية باطنية وهواجس واحلام وتخيلات وكلها تنتظم في فضاء تعبيري اراد له المخرج محمد مفتكر ان يخرج عن النمطية السائدة والشكل التقليدي في السرد الفيلمي متجاوزا كثيرا من الكليشيهات في هذا المجال .
لكن الفيلم ومن دون ادنى شك قد تفوق الى حد كبير في مجال الصورة والسينوغرافيا ( مدير التصوير زافي كاسترو) ، فجماليات التصوير ومنذ المشهد الأول الذي يظهر المرأة وهي تسير في فضاء ليلي قاتم باتجاه الحصان ، منذ ذالك المشهد راح المخرج يعزز ذلك التدفق الصوري في المشاهد الليلية بمزيد من الحس الجمالي وقوة التعبير ، فالبناء الأضائي والملمس وتعبيرية الصورة محملة بالكثير من المفردات الجمالية يضاف الى ذلك طريقة تصوير مشاهد الحوار بين (زينب ) وريحانة في المستشفى / السجن اذ غالبا ماتم تصويرها بالعدسات قصيرة البعد البؤري معطية للمكان شكلا شبه اسطواني مقفل تقبع فيه الشخصيات وهي اسيرة ازماتها .لقد كانت المشاهد الليلية اكثر مااجاد فيه مدير التصوير في صنع مناخ تعبيري بالغ التأثير والدلالة وكذلك في مشاهد الطفولة والكتابة ومشهد تعري الفتاة ليظهر جسدها وهو مغطى بالحروف والكلمات ...
كل هذا كان تعبيرا عن ولع خاص لدى المخرج في الغوص في ماوراء السرد او مابعد السرد الفيلمي المباشر حاشدا ادوات تعبيرية متنوعة للوصول الى غايته ، لكنه في حاجة الى مشاهد يقظ ليس بالضروروة ان يبحث عن قصة تقليدية معتادة بل ان يشعر بلذة الأكتشاف ومتعة التعبير ..
................
الفيلم : البراق
pgase العنوان الفرنسي
سيناريو واخراج : محمد مفتكر
مدير التصوير : زافي كاسترو
مونتاج: جوليان فوريه
تمثيل: ماجدولين دريسي ، سعدية لديب ، ناديا نيازي ، دريس روخ ، انس الباز
سنة الأنتاج 2010