قراءة في تجربة المخرج التركي ريها ارديم
فيلم "شمس حياتي المشرقة " تراجيديا انسانية بجذور واقعية
طاهر علوان
في المسافة الفاصلة بين عالمين ، علم هناك يتضخم ويتسع ولايمكن ادراك حدوده وخباياه ومداه ، هو البحر الشاسع الذي تتجول فيه البواخر العملاقة فيما تكتفي المراهقة الوديعة (حياة ) بالفرجة عليه , العالم الشاسع الذي يحتله الراشدون وهم يصارعون من اجل العيش في مقابل ذلك الدبيب الصامت الذي تمارسه (حياة )وهي تدرج في حياة متشعبة وعصيبة .
مابين العالمين هنالك مساحة ما لقراءة هذا الواقع الذي لايريد ان يستجيب ولا يعنى بما يكون عليه الناس ، من هو القوي فيهم ومن هو الضعيف ، فالحياة تسير الى غاياتها وكل شيء الى منتهاه بينما في الجانب الآخر ثمة مساحة للصمت والحيرة والقلق ، مساحة هي خليط من التحولات التي تلاحق الشخصية .
في تجربة المخرج التركي الشاب (ريها ارديم) ثمة هذا النزوع لتملس محنة الأنسان وصراعاته وقلقه وتحولاته وضعفه وقلة حيلته ، هنالك كائنات رخوة وضعيفة يبحث عنها ايرديم – كاتب السيناريو والمخرج - ويقترب منها يتلمس قلقها ووحدتها ، ثمة كائنات مجهولة وليست عظيمة ولامعروفة ولكنها تقرأ الحياة بطريقة مختلفة ـ علامة اختلافها لوحده كاف لتلمس مسارها واكتشافه فهو جدير بالأكتشاف حقا ...
كائنات معزولة
يبحث ايردم عن كائنات معزولة ونائية وتعيش في اماكن نائية ليقترب منها ويحاكيها ويتفاعل معها ، مساحة البطولة والأشراق محدودة تماما بسبب ان تلكم الشخصيات لاتمتلك عناصر القوة التي تجعلنا ان نتمثلها بقدر ان نقترب منها ونتفاعل معها ونعيش احلامها وهواجسها ...(حياة) المراهقة و (كوزموس) الذي يتمثل شخصيات تاريخية عرفناها كعروة بن الورد في التراث العربي و روبن هود في التراث الأنجلو سكسوني ، هؤلاء الذين يكرسون حيزا من حياتهم لمساعدة الأخرين ، هذان النموذجان او المثالان هما الأكثر تعبيرا عن عالم ايردم السينمائي
هو عالم مفعم بالواقعية وقريب من الحياة ، يبحث عن منافذ شتى للأقتراب من شخصياته سواء وهم مسالمون وطيبون او هم يمارسون اخطاءهم التي في الغالب يساهم في صنعها المجتمع المحيط بهم .
يحاول ريها ايضا ان يجعل من الكاميرا ، من الصورة اداة للتفاعل بين الشخصيات والجمهور وبالرغم من امعانه في التركيز على شخصياته الى درجة الأحساس انه يقع في دائرة التكرار الا انه في الحقيقة يحفر عميقا في عالم شخصياته والمجتمع الذي تعيش فيه .
ومن جانب آخر فأن دراسة ريها في باريس وحصوله على شهادته العليا في تخصص السينما من جامعة باريس الثامنة لم يدفعه الا الى اعادة قراءة الواقع والحياة في تركيا ، فهو لاينحو منحى تغريبيا مع شخصياته او انه يحاكمها من وجهة نظر تخصه هو بل هو اكثر تفاعلا معها في حياتها الواقعية.
حياة ..مراهقة تقرأ الواقع بعيون الكبار
يحكي فيلم "الشمش المشرقة في حياتي " بأسلوب واقعي شاعري انساني مرهف قصة فتاة تدرج من الطفولة الى المراهقة وهي حياة ، التي انفصل والداها فصارت توزع وقتها مابين يومها المدرسي مرتدية ثوبها الأزرق وبين رعاية جدها المقعد الذي تصيبه بين الحين والآخر نوبات حادة من ضيق التنفس (الربو) مما يتطلب باستمرار وجود كمام الأوكسجين الى جانبه ، تمضي حياة يومها الرتيب وقد تسرب صوت الشهيق والزفير لجدها الذي يكاد يموت في كل يوم ، تسرب اليها لاشعوريا حتى صارت تبادله ذلك الضيق بين الحين والآخر ، خلال ذلك هي لاتمتنع عن تلبية رغبة جدها في التدخين وتذهب بين حين وآخر لشراء السجائر له ليستدرجها صاحب الدكان مداعبا في شكل يتطور بالتدريج الى التحرش الجنسي وكان بعد ان ينتهي منها يتركها تحمل معها ماتشاء من حلوى من الدكان حتى صارت هي مصدرا للحلوى توزعها في المدرسة على زملائها وزميلاتها وسط شكوى مستمرة من ادارة المدرسة من اهمالها وقيامها بالغش بينما الأب يوفر خدمة يومية للبواخر الراسية او القادمة بتوفيرالمخدرات والفتيات للبحارة ، الأحداث كلها تقع على شاطئ البحر ، فالبيت الخشبي لحياة ووالدها وجدها يقع في منطقة خضراء ، يحاذي الجسر المؤدي الى المدينة ، تنمو احاسيس المراهقة في داخل حياة التي تمضي اغلب الفيلم وهي صامتة تردد اصواتها الخاصة ومغطية وجهها بشعر كثيف ينسدل على عينيها ، ومع وصولها الى درجة من الضياع التام وما يقع لها من تطورات بيولوجية وفي تكرار زيارتها للدكان تغتصب ربما من طرف صاحب الدكان نفسه ويتطور الأمر مع الأب ايضا الذي ينتهي به الأمر الى ان تلقي الشرطة القبض عليه بعد عثورها على المخدرات لديه .
الواقعية والدراما الأنسانية
يقدم الفيلم ممثلة مراهقة على درجة عالية من التمكن في الأداء يقف خلفها مخرج مقتدر استطاع ان يقدم هذه الدراما الواقعية بكل تلك السلاسة والجمال الأنساني ..
تبحث في يوميات الشابة اليافعة "حياة" عن افق ما ، افق تحاول الأجابة عن (لماذا؟ )، لماذا هذه الشخصيات وما دوافعها وماحاجاتها ، الأجابات التي تتعلق بهذه الدراما تبدأ من مشهد مصنوع بعناية ، انه آخر مصباح مضيء مع طلوع الصباح ، حياة تقف على حافة المياه بانتظار قدوم والدها بزورقه لينقلها الى المدرسة في كل يوم ، يتكرر المشهد ذهابا ورواحا ، دون ان يكون لدى الأب كثير مما يقوله لطفلته ، وهي ايضا لايوجد ماترويه لوالدها وهي التي يغطي شعرها وجهها تماما وتدندن بأغنية ما مع نفسها ، حياة صامتة لايقطعها سوى لهاث الجد ومرضه وعزلة حياة ووحدتها ...
صناعة المشهد وتحولات الشخصيات
يصنع المخرج سلسلة مشاهده بعناية تامة ولكن بواقعية في تلك المساحة الواقعية في خطوط حركة حياة ذاهبة الى بيت جارتهم التي تعطف عليها وتشاركها الطعام ومشاهدة التلفزيون ، فيما امها المنفصلة عن ابيها ترعى طفلا رضيعا من زوج يعمل ضابطا للشرطة ، وفي سلوك فيه من خبث المراهقة وبساطة الطفولة تكشف حياة عن ساقيها لزوج الأم الذي ينهرها مرارا ويطالبها ان تعتدل في جلستها ...هي تدور في فضاء لحيوات مجاورة فيما هي في المركز تكتشف لنفسها عن مسار ما خاص بها.
في المقابل نجد ان الأب في صراعه من اجل العيش لايجد مهنة غير خدمة البواخر الضخمة القادمة الى ميناء قريب ، خدمتها بتبادل او مقايضة الخمر بالمخدرات وكذلك الأتجار بجسد غانيتين يوفرهما لمن يدفع ، ويتكرر مشهد تلكما الفتاتين من ذلك الزورق الصغير الى تلك البواخر العملاقة وفي احدى المرات ترمى الفتاة الغانية الى البحر بعد ان واقعها خمسة من البحارة ولم يدفعولا لها شيئا .
حياة مهشمة ولا شكل ولا معنى لها سوى ان يمضي الأب في دورته الروتينية اليومية التي ببحث فيها عن وجود ما في هذه الحياة ولو هامشي ...هي دورة مألوفة ومكررة : ينقل حياة الى المدرسة ، يعود الى عرض البحر بانتظار قدوم البواخر ، يجلب البغي ، يوفر الحشيش بواسطة دلو يرسله له البحارة فيه المال وزجاجات النبيذ ، يعود ، مشهد قلي السمك اليومي يتكرر ، وهكذا تدور حياته .
حياة البالغين التي لانراها
هي حياة البالغين وافعال الكبار في مقابل احلام المراهقة (حياة) ، هي في قلب دائرة الكبار التي تتضخم وتتسع من حولها وهي تحاول ان تجد لها مكانا في تلك الدوامة المجهولة التي تكشف عن انانية ولامبالاة بوجودها ، وهي تجد مع كل واحد من اولئك الكبار جانبا تكتشفه ، فهي اكتشفت مع صاحب الدكان ماذا يعني نمو الحواس والتفاعل جنسيا وصولا الى الممارسة الجنسية الفعلية التي لانشاهدها اطلاقا وحيث لايحتوي الفيلم مشهدا جنسيا واحدا ولا مكشوفا ، لكنك تستطيع ان تدرك في آخر مشهد عادت فيه حياة من زيارتها اليومية لصاحب الدكان انها قد قد تعرضت الى تجربة جنسية القتها خاوية في وسط الحديقة الكبيرة المقابلة للمنزل المواجه للبحر ، وهي اخذت من جارتها الودودة عزلة المرأة ونسيانها ما حولها وانشغالها بالتهام الطعام ومشاهدة التلفاز والذهاب الى ملاعب الأطفال واخذت من والدتها انشغالها بالطفل الرضيع واخذت من البغي التي يسمسر بها والدها للبحارة الأبتهاج بالحياة والتمتع بالأزياء والعطور وهوماتحاول حياة ممارسته فيها بعد في مشهد اخير يجمعها مع مراهق آخر حيث يسرقان زورقا وينطلقان فيه في عرض البحر .
جمالية البناء المكاني
بالرغم من انعكاس الطابع الواقعي على الفيلم حيث تم التصوير غالبا في اماكن حقيقية الا ان اختيار المخرج للمكان تميز بجمالية خاصة اذ يلفت النظر هذا التجاور بين بيئات متعددة ، البحر حيث تجري الفصول اليومية المعتادة لتواصل الأب مع البحارة ، وحيث يتقزم ويصغر هو وقاربه الى درجة تقترب من التلاشي قياسا لتلك البواخر العملاقة التي يتواصل معها ، وبمجرد الخروج من البحر يلوح البيت الخشبي لحياة ووالدها وجدها وهو يقع في وسط احراش واشجار وحدائق وحيث الصلة اليومية مع الطبيعة والطيور والقطط ..وعندما تذهب حياة الى الدكان لشراء السجائر فأنها ترتقي سلما بسيطا يقودها الى طريق متعرج ينتهي بها الى المدينة الصغيرة حيث الدكاكين وحيث للحياة نبضها المختلف ، تتجاور هذه المكونات المكانية وتتلاحم مع ان لكل منها اثره التعبيري في الفيلم ، فالبحر بالنسبة لحياة ليس اكثر من مكان انتظار على الشاطئ او المرسى حتى قدوم الأب ليقلها الى المدرسة ، ولكنه ايضا له امتداد مع مياه ضحلة عندما تسير فيه حياة من دون ان تغرق او تسبح ، واما المدينة النائمة فهي لاتقدم لحياة غير رجل واحد هو ذلك الذي يغويها ويتحرش بها جنسيا ...بينما تكون الغابة الصغيرة والأحراش مكانا لحياة تتأمل فيها وتتوارى عن الأنظار في وسط الأحراش ، هذه الجمالية الفريدة للمكان منحت الشخصية ملاذا من جهة كما منحتها قراءة لما حولها وتواصلا مع الأخر من خلال جغرافية المكان .
………………………………..
من اسرة ورشة سينما – خاص : بروكسل
و س 32 -11-2010
المقال للأستفادة الشخصية وليس لأعادة النشر . جميع الحقوق محفوظة لورشة سينما . لايسمح بأعادة النشر الا بموافقة ادارة الموقع والكاتب صاحب المقال.اعادة النشر من دون موافقة يعد مخالفة قانونية لحقوق الملكية الفكرية والنشر