" الحب في زمن الكولير" بين الرواية والفيلم
جدل التاريخ والمكان والبحث في البناء الجمالي
د.طاهر علوان
مما لاشك فيه ان الصلة بين الرواية والفيلم كانت وماتزال ركنا مهما من اركان صناعة السينما في انحاء العالم وكانت الرواية على الدوام مصدرا مهما وأساسيا من مصادر السينما الروائية وتم تحويل المئات من روائع الروايات الى السينما بعد تعديلبها واعدادها سينمائيا .
وربما تساءلنا عن السر وراء هذه الصلة العميقة بين هذين الوسيطين التعبيريين : الرواية والفيلم ، والجواب بشكل عام هو التنوع والغنى السردي الذي تتمتع به الرواية وهو مطلب سينمائي رئيس ذلك ان هذا التنوع يتيح بالضرورة افقا مفتوحا من التحولات في الأزمنة والأماكن كما يتيح بالمقابل تنوعا في الشخصيات وفي بنائها واهدافها ، وعلى الجانب الآخر هنالك الأحداث التي تتنامى من خلالها الدراما وتبحر فيها الرواية في مدارات التاريخ وفي آفاق زمانية بعيدة .
هذه المعطيات وغيرها تؤشر دون شك لأهمية الرواية باعتبارها مصدرا فيلميا مهما واساسيا وفي الوقت نفسه تفتح افقا واسعا لأشكال وتجارب متنوعة في اعداد النصوص الروائية وتقديمها الى الشاشة.
ومما لاشك فيه ان هنالك خلاصات مهمة لابد من التوقف عندها في هذا الباب ومن ذلك السؤال الأزلي التقليدي القائل : هل كان الفيلم مطابقا للنص الروائي ؟ او الى اي حد كان كاتب السيناريو موفقا في نقل النص الروائي الى السينما ؟ هذا التساؤل المنطقي التقليدي ارتبط ارتباطا وثيقا بذاكرة القراء الذين الفوا الروايات وتفاعلوا معها واحبوها ولهذا لايخطر في بالهم ان يجري تشويه او اضعاف النص الروائي الذي عشقوه وتفاعلوا معه .
لكن جل المخرجين وكتاب السيناريو ذوي التجربة الطويلة في اعداد ونقل الروايات الى السينما لديهم رؤية اخرى مفادها ان الرواية الصالحة للسينما هي الرواية الأكثر قربا الى الحس ، الى ادراك الأفعال والأحداث واقترابها مما هو مرئي ومدرك ومسموع ، والنأي بعيدا عن تلك الروايات الباطنية التي يتحرك فيها تيار الوعي والأحاسيس الداخلية اذ ثم فرق شاسع بين رواية البحث عن الزمن المفقود لبروست وبين رواية العراب لماريو بوزو مثلا ، الأولى ارقت المخرج العالمي ايزنشتاين وعجز عن فعل شيء بصددها رغم شعبية الرواية وكونها نقطة تحول في مسار الرواية العالمية ، انها رواية العقل الباطن والتفكير الداخلي ، رواية تقدم اشكالا من التشويش الذهني ومن العسير بلوغ بنائها الدرامي بالشكل التقليدي بينما رواية العراب تعد نصا سينمائيا جاهزا وكذلك الحال مع رواية ذهب مع الريح واحدب نوتردام و عناقيد الغضب والشيخ والبحر و الطاحونة الحمراء و ممر الى الهند و كثير جدا غيرها .
ومؤخرا شغلت اوساط السينمائيين والنقاد وعشاق الرواية مسألة نقل رواية الكاتب الكولومبي الشهير كابريل كارسيا ماركيز الموسومة ( الحب في زمن الكوليرا ) ، هذه الرواية التي تعد واحدة من اهم روايات ماركيز والأكثر شعبية وواحده من اهم قصص الحب في نظر نقاد الأدب والقراء في ارجاء العالم حيث ترجمت الى اكثر من 35 لغة من بينها اللغة العربية بالطبع ، وقرأها عشرات الملايين من القراء .
ومن المؤكد ان ماتركته وتتركه الرواية في ذهن قارئها من انطباعات وافكار تدفعه الى مشاهدة الوجه الأخر للرواية على الشاشة ، ان تظهر الرواية وهي اكثر عمقا وجمالا على الشاشة وان يرى المشاهد شخصياته الأثيرة وهي حية وفاعلة امامه وبين يديه فهل كانت هذه الرواية في شكلها السينمائي خلاقة ومؤثرة كما كانت في شكلها الأدبي ؟
الرواية نقلت الى السينما على يد المخرج "مايك نويل" ،وهي تتحدث عن قصة حب طويلة تقع احداثها في منطقة الكاريبي في اجواء شائكة ومحتدمة ممثلة في وبائين كبيرين يلاحقان الشخصيات وهما الحرب الأهلية في كولومبيا في القرن قبل الماضي ووباء الكوليرا وكلا الآفتين اللتين مثلتا المناخ الذي نشأ وترعرع فيه ذلك الحب الغريب بين بطلي الرواية فلورنتينو و فيرمينا مذ كانا مراهقين ، لعل هذه الأجواء الكابوسية كافية لتعطيل احساس الأنسان بالحياة لكن ايقاعا رومانسيا انسانيا حالما كان يفعل فعله في فكر وضمير الشخصيات ويمضي ذلك الحب محركا اجواء الرواية وبنائها السردي مابين نزعة للتشبث بالحياة فيما غول الموت يتواجد في قرارة وعي ولاوعي الشخصيات لكنهما يمضيان في ذلك العالم القاتم . المهم ان عقبات شتى تقف في وجه تلك العلاقة منها رفض والد فيرمينا لتك العلاقة ورفض زواج ابنته من فلورنتينو ممايدفع اسرة فرمينا الى السفر بعيدا لقطع دابر تلك العلاقة بقرار من الأب الذي سيزوج ابنته الى طبيب شاب تخرج من باريس وفيه سيماء التحضر بكل ابعادها فيما يواصل فلورنتينو ذلك الحب من خلال تدفق البرقيات التي كان يرسلها لحبيبته لكنها كانت ترى في ذلك الحب سرابا طويلا حتى تيأس منه وتقبل الزواج من ذلك الطبيب والأنجاب منه ..هذا الحب بالنسبة لفلورنتينو يبقى حيا وقويا في داخله لمايقرب من نصف قرن ..لايجد خلالها في اية امرأة ممن عرفهن ايا من صفات حبيبته ليعود اليها وقد اكتهلا وفي يوم مأتم وفاة الزوج الطبيب معلنا انه لم يتوقف عن حبها يوما رغم كل تلك السنين الطوال .
البناء السردي والشخصيات الباحثة عن الذات
مما لاشك فيه ان الرواية تتميز بتنوع سردي عميق بل يمكن القول ان بناءها السردي هو احد ابطال الرواية ومحركها الأساس بالرغم من ان الوسيلة التقليدية التي اعتمدها ماركيز هي وسيلة التداعي للماضي (فلاش باك ) اذ يعود بالشخصيات القهقرى بامتداد يصل الى نصف قرن ليتتبع ماهي عليه لكنه خلال ذلك يجد في الزمن الخاص بكل شخصية من الشخصيات عنصر قوة اضافي يمنح البناء السردي قوة وتنوعا ملفتا للنظر .
فالسرد ينمو ويتطور بتطور الأحساس بالزمن في داخل الرواية فبالرغم من ان الماضي هو المتحكم في مسار الأحداث وفعل الشخصيات الا ان ذلك وحده لايغطي الا جزءا من التنوع السردي الذي يواكب تحولات الشخصيات فالزمن عند فلورنتينو مرتبط بأمرين هما : انه لايشعر ان ذاك الزمن الممتد الى نصف قرن والذي امتص منه رحيق شبابه كان سببا في تعطيل حواسه وهي تكتشف ذلك الحب الأول ولهذا كان في كل ماعاشه يواصل مهمته في انتظار يوم تحقق اللقاء مع فيرمينا اما الأمر الآخر الملفت للنظر فهو ان ذلك الزمن ليس زمنا متحجرا ميتا بل انه زمن حي اضفى عليه البناء السردي للرواية حياة اخرى تمثلت في ماشهده العصر من تحولات اذ كان فلورنتينو عاملا في محطة ارسال البرقيات بنظام مورس القديم الذي يعتمد الأشارات النقطية اضافة الى استخدام الحمام الزاجل حتى في تواصله مع صديقاته اللائي لم يحب يوما ايا منهن ولم يكن غير محطات عابرة في حياته .
واما البناء السردي من جهة احساس فيرمينا بهذا الزمن الطويل فقد كان اقترابها اكثر مما هو واقعي قد دفع بها الى قراءة اخرى للزمن فهي وجدت بعد بضع سنوات انها كمن ينتظر او يعيش على سراب ومجهول والحياة الجدية التي صنعها لها ذلك الطبيب الشاب كانت كفيلة ان توجد لها رؤية اخرى لما حولها ولهذا كان الماضي عندها ظلالا وبقايا من ازمنة المراهقة وكانت تمضي قدما في تأسيس احاسيس ومواقف اخرى اخرجتها من اسر تلك الدائرة القفلة .
الرواية والفيلم ..هاجس المقارنة واشكالية المعالجة الدرامية
وبعد ان مررنا بشكل سريع بأبرز محطات هذه الرواية وبالأرضية القوية لها ممثلة في تنوعها السردي ومتانة بناء شخصياتها لابد لنا من التوقف عند المحور الأهم فيها وهو طرحها السؤال المتجدد عن الشكلين الروائي وقرينه الشكل السينمائي .وفيما يخص ماركيز ورواياته فلا يختلف اثنان ان تلك الروايات تمثل تحديا كبيرا للمخرجين السينمائيين وكتاب السيناريو بسبب كونها ملاحم روائية يتنقل فيها ماركيز بين الأزمنة والتواريخ بمهارة عجيبة ويحلق مع شخصياته في اجواء تتداخل فيها الأشكال والرموز والميثولوجيا الكولومبية بالعادات والتقاليد والخرافات والنزعات الذاتية المتفجرة مابين الحب والكراهية والصراعات الكامنة والظاهرة وكأننا وتلك البلاد من خلال اعمال ماركيز نعيش في كوكب آخر . ولهذا ظل ماركيز الحائز على جائزة نوبل سنة 1982 حريصا على رواياته متمنعا من تحويلها الى افلام سينمائية وخاصة روايته ذائعة الصيت هذه التي تعد واحدة من اجمل روايات الحب على صعيد الأدب العالمي وكانت قد صدرت سنة 1985 ولم يوافق ماركيز على بيعها للسينما الا قبل عامين بمبلغ ثلاثة ملايين دولار ..وياليته مافعل ..فالفيلم المأخوذ عن الرواية محبط كثيرا في نظر الكثير من النقاد ومن قرأ الرواية وتمتع ببنائها السردي ونزعات شخصياتها سيجد نفسه من حيث لايشعر منقادا الى نوع ما من المقارنة مابين ماقرأ وما يشاهد على الشاشة .
فبينما كانت الرواية ملحمة انسانية عميقة لمايقرب من قرن كامل من الحياة في الكاريبي وكانت محملة بخرافات ذلك العصر وبالمحن التي تفتك بالشخصيات فيما الحب يشكل وسط قتامة الأحداث مسارا مشعا مشرقا تنتظم من حوله نزعات الأنانية والأستغراق في المجهول الأنساني ، كل هذا وغيره تكثف في عالم روائي مليء بالألوان والملامح والروائح واللمسات السحرية اما في الفيلم فقد كنا ازاء محاولة مستميتة لكنها غير موفقة تماما للحفاظ على تماسك هذا كله ، محاولة الوفاء للرواية بما هي عليه دون احداث تغييرات كبرى على حياة الشخصيات لكن هذا الوفاء للرواية كان يقابله دوما سؤال عن متانة البناء الدرامي وشكل الدراما وهو ما حاول المخرج ليونيل ان يتجاوزه من خلال مجموعة من التحوطات من اهمها التصوير في البيئة الحقيقية للرواية وتقديم صورة العصر الذي عاشت فيه الشخصيات الا ان ذلك كله لم يكن كافيا بالتأكيد .
كثافة الأحداث والخلاصات التعبيرية
لعل من الأمور الملفتة للنظر هي لجوء كاتب السيناريو رونالد هاروود وتاليا المخرج الى تلخيص احداث تلك الرواية المتشعبة العصية على السينما ، والملاحظ ان ذلك التلخيص لم تنتج عنه غير نسخة باهتة ومتواضعة من رواية ماركيز ، اذ بدت الأحداث والشخصيات وكأنها ترى من وجهة نظر تحاول الأقتراب من عوالمها فلا تستطيع ولاتملك عندها الا المحاولات التي تصيب حينا وتخيب احيانا .
فمثلا لم يكن فلورنتينو في الرواية شابا ضائعا طائشا بل وربما منحرفا كما هو في الفيلم ، كان محبا وانسانا واعيا ولهذا نجح في مجال العمل والعمل التجاري ونجح في مساعدةعمه في النقل النهري وآلت اليه شركة ذلك العم وصار من الأثرياء في خريف العمر ، بينما ظهر في الفيلم في صورة مشوهة تماما عما هي الحال في الرواية والتشويه ناجم عن عدم التمكن في اعادة صياغة الشخصيات سينمائيا ، فالممثل الأسباني خافيير بارديم الذي قام بدور فلورنتينو حاول انقاذ مايمكن انقاذه كلما اوتي الى ذلك من سبيل لكنه لم يوفق في كل الحالات ومن ذلك ان البناء الشعري العميق الذي وسم شخصية فلورنتينو الذي لم يكن متحققا على الشاشة ، كانت الشخصية في الرواية تعيش في قلب عالم محتقن وكانت احاسيس فلورنتينو التي تقترب من الخرافة تمثل نزعة عميقة لخلاص الذات من خلال الأخلاص لذلك الحب . واذا كان هنالك من الخلاصات التعبيرية الجديرة بالأشارة فهي الأشارة الى فيرمينا في المقابل والتي ادت دورها الممثلة الأيطالية جيوفانا ميزوجورجينو ولم تكن الا شاهدا خارجيا وربما هامشيا على ماجرى ويجري ، كانت بعيدة تماما على مستوى التعبير الفيلمي عن عمق الشخصية ونزعاتها وتحولاتها ونزقها ، وبعد ان رفضت حبها القديم اذا بها تعيش على هامش المغامرة متحدية ابناءها باتجاه خوضها لتلك المغامرة من جديد بعد موت زوجها فيما هي في حوالي السبعين من عمرها لتعود بطريقة آلية ضعيفة التأثير في البناء الروائي ، لتعود الى عالم فلورنتينو وقد صار ثريا وهو يحملها الى قاربه الذي يجوب مياه الكاريبي رافعا راية صفراء دلالة على ان القارب يحمل مصابين بالكوليرا فلا يجب ايقافه فيما يتمتع العاشقان بوقتهما .
جماليات الشكل السينمائي والبناء المكاني
لعل من الحلول التي لجأ اليها المخرج ساعيا الى الأحتفاظ بذلك البريق الأخاذ الذي تمثله البيئة السحرية هو تأسيسه شكلا سينمائيا يمزج مابين ملامح العصر الذي عاشته الشخصيات وبين التصاعد الزماني المضطرد الذي يعد ميزة بالغة الأهمية في الرواية ، فهذا المزيج ظل هو العامل الأهم في البنية الروائية وتاليا كان هنالك سعي لتأسيس بيئة موازية حفاظا على صدقية وواقعية الشكل الروائي .
هذه المعطيات وربما غيرها كانت كافية بالنسبة للمخرج لكي يذهب بعيدا الى تلك القرى الكولومبية النائية لكي يدفع بشخصياته الى الواجهة ، ومن هنا توفرت للمخرج المرونة الكافية لأنتقاء مايشاء من اماكن تعوم في فضائها شخصياته ، لكن مايمكن تلمسه انها واقعيا اية اماكن واي زمان ، بمعنى ان لاخصوصية كبيرة تذكر للبناء المكاني في اطار البيئة الكولومبية عما سواها ، هذا اذا استثنينا بضعة مشاهد خارجية كمشهد نزوح عائلة فيرمينا بعيدا عن مسكنها ومشهد احد الأنهر الكولومبية حيث يطفو قارب فلورنتينو و فيرمينا معا في المشاهد الأخيرة من الفيلم وماعدا ذلك فالمسكن هو المسكن لاتميز يذكر فيه ، تلك القوقعة – بحسب ادوارد هال- الذي تعيش في قراراته هذه الشخصية او تلك ، سواء فيرمينا او فلورنتينو او احدى النساء الأخريات من اللائي عرفهن فلورنتينو ، هذه الأشكالية هي نقطة ضعف اضافية في البناء الفيلمي بسبب ان المكان والبيئة لم تلعبا دورا كبيرا في معالجة المخرج وقبله كاتب السيناريو ، لأن المكان في اصل الرواية يلعب دورا فعالا وبالغ الأهمية في البناء الفيلمي وهي ميزة من اهم ميزات ادب ماركيز ، اذ يتلمس قارئ روايات ماركيز ومنها بالطبع هذه الرواية ، ذلك التنوع المكاني الأخاذ والوصف الدقيق للتفاصيل ، لكل التفاصيل الضرورية التي تعمق صلة الشخصية بالمكان حتى يغدوان وحدة واحدة متكاملة من جهة كون المكان في هذه الحالة انعكاسا واعيا لأحاسيس الشخصيات وافكارها وليس ظلا تابعا للشخصيات فحسب . ولعل ميزة ماركيز الأخرى انه يجمل المكان ويمنحه ابعادا اعمق وأكثر تأثيرا فهو يلون المكان ويجسمه اثناء الوصف ويمنحه شكلا وبناء جماليا مؤثرا فضلا عن اطلاقه شتى الروائح المنبعثة من المكان التي يحرص عليها ايضا كل الحرص .
اما في الفيلم فأن التجريد كان ميزة غالبة بمعنى ان الفيلم اخرج شخصياته من بيئتها الى حد كبير ليضعها في بيئة فيلمية موازية وبذلك اسس مكانا بالرغم من كونه جغرافيا هو نفسه المكان الكولومبي الأصل الا ان طريقة عرضه لم تكن لتوفر كثير من عناصر التعبير والخلاصات الجمالية التي يمكن التوقف عندها على اي صعيد .
ولعل من الأمور التي من المهم التوقف عندها هي السؤال عن مدى ماتوفر للشخصيات من مناخ تعبيري مكاني اتاح لها ان تنمو طبيعيا وتتفاعل مع المكان وتعبر عن نفسها ؟ هذا التساؤل يقود واقعيا الى ان الشخصيات بحاجة الى تأثيث مكانها وبصمه ببصمتها الخاصة ، وعلى هذا فأن البحث في ثنايا ذلك المكان الكولومبي في الفيلم عن تلك الملامح والخصائص لايوفر كثيرا جدا من المعطيات المطلوبة ، او المتوقعة وهو عنصر اضافي من العناصر التي لم تجري معالجتها بعناية كافية .
ازمنة التحولات الكبرى
لعل من المهم القول فيما يتعلق بالناء السردي للرواية والفيلم على السواء انه لم يكن عبثا ان يقدم ماركيز على عرض حياة شخصياته على مدار مايزيد على نصف قرن من الزمان تم خلالها تنويع البناء السردي دون ان يكون لكل ذلك من دلالة ومعنى وغايات لعل من ابرزها ان هنالك تحولات كبرى سواء في مسار التاريخ والزمن او تاريخ الشخصيات وهي مسألة برع فيها ماركيز وهو في هذه الرواية قدم تحولين هامين في التاريخ الكولومبي في القرن قبل الماضي وهما : الأول هو الحرب الأهلية والثاني هو الكوليرا وفي ثنايا هذين التحولين عاشت الشخصيات وهي تكابد من اجل الأستمرار وفي ثنايا هذين التحولين ايضا كان حب فلورنتينو لفرمينا قد ترعرع وتعمق وتجذر ، فالحرب الأهلية كانت سببا في تمزق اجتماعي ودمار قيمي ورعب يومي يجتاح الشخصيات لكنها كانت في الفليم مشهدا مجردا ظهرت فيه امرأة مرعوبة من اصوات الأنفجارات تبحث عن ملاذ وهي في حالة من الهستيريا لكن ام فلورنتينو تدفع بتلك المرأة الى احضان ابنها من اجل ان تخلصه من عقد الماضي وحبه لفرمينا ..هكذا في مشهد واحد سبقته لقطات لأناس يركضون تصحبهم اصوات انفجارات ، وبهذا تم تجريد هذا التحول الكبير من تأثيراته النفسية والأجتماعية والأنسانية .
واما المؤثر الآخر المهم فهو اجتياح الكوليرا ، وهو مؤثر تم ابتساره الى بضعة مشاهد تمثل اولها في المستشفى ومشهد آخر لجثث مرمية في الطرقات وبين هذا وذاك كان فلورنتينو مشغولا بمغامراته العاطفية الطائشة وكونه مجرد رجل يبحث عن اللهو في وسط تراجيديا هائلة ومخيفة كافية تماما لتعطيل كثير جدا مما يسعى اليه الأنسان العادي في حياته اليومية .
لعل هذه الخلاصات عن التحولات الكبرى هي عناصر اساسية في الرواية يجب التوقف عندها مليا لأدراك حيوية البناء السردي ومدياته التي اطرت الشخصيات ولكنها دفعت باتجاه معالجة مغايرة لجأ اليها المخرج وجعل منها مجرد هامش مكمل لما يعيشه فلورنتينو من نزعات تبدو في الفيلم غير معمقة ولارصينة بما فيه الكفاية بينما هي في الرواية محاور اساية في البناء السردي وقوة محركة فاعلة للشخصيات عندما تتجاور ثلاثة عوامل اساسية هي : الحب من جهة والحرب والكوليرا من جهة اخرى فالحياة والموت يتصارعان بعناد في هذه الرواية ، وماالحب الا شاهد فاعل على ذلك الصراع بل انه يغدو احيانا بديلا لكل تلك الأزمات الطاحنة التي تفتك بالشخصيات .
لابد في الختام ان نعلم ان المخرج مارك نيويل هو في الستينيات من عمره وهو مخرج هذه الأفلام : فيلم هاري بوتر -2005 و فيلم ابتسامة الموناليزا – 2003 و فيلم دوني برالكو – 1997 وفيلم اربعة اعراس وجنازة – 1994 وفيلم في الغرب – 1993 وفيلم الأب الطيب 1987 وفيلم الرقص مع الغرباء – 1985 اما اول افلامه فحمل عنوان : الرجل ذو القناع الحديدي 1976
واما كاتب السيناريو فهو رونالد هاورد وهو نفسه كاتب سيناريو فيلم عازف البيانو – الحائز على جائزة الأوسكار.
.......................................